الموسوعة القرآنيّة - ج ٣

ابراهيم الأبياري

الموسوعة القرآنيّة - ج ٣

المؤلف:

ابراهيم الأبياري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة سجل العرب
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٢٤

(٢٢) التجريد :

وهو أن تعتقد أن فى الشيء من نفسه معنى آخر كأنه مباين له ، فتخرج ذلك إلى ألفاظه بما اعتقدت ذلك ، كقوله تعالى : (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ) آل عمران : ١٩٠ ، فظاهر هذا أن فى العالم من نفسه آيات ، وهو عينه ونفسه تلك الآيات.

* * *

(٢٣) التجنيس :

وهو :

١ ـ إما تام ، وهو أن تتساوى حروف الكلمتين ، كقوله تعالى : (يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ) الروم : ٥٥.

٢ ـ وإما بزيادة فى إحدى الكلمتين ، كقوله تعالى : (وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ. إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ) القيامة : ٢٩ ، ٣٠.

٣ ـ وإما لا حق ، بأن يختلف أحد الحرفين ، كقوله تعالى : (وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ. وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ) العاديات : ٧» ٨.

٤ ـ وإما فى الخط ، وهو أن يكون مشتبها فى الخط لا فى اللفظ ، كقوله تعالى : (وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً) الكهف : ١٠٤.

٥ ـ وإما فى السمع ، لقرب أحد المخرجين من الآخر ، كقوله تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ. إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) القيامة ٢٢ ، ٢٣.

* * *

(٢٤) التذييل :

أن يؤتى بعد تمام الكلام بكلام مستقل فى معنى الأول تحقيقا لدلالة منطوق الأول ، أو مفهومه ، فيكون معه كالدليل ، ليظهر المعنى عند من لا يفهم ، ويكمل

٤١

عند من فهم ، كقوله تعالى : (ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا) سبأ : ١٧ ، ثم قال تعالى : (وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ) أى هل يجازى ذلك الجزاء الذى يستحقه الكفور إلا الكفور ، فإن جعلنا الجزاء عاما كان الثانى مفيدا فائدة زائدة.

* * *

(٢٥) الترديد :

وهو أن يعلق المتكلم لفظة من الكلام ثم يردها بعينها ويعلقها بمعنى آخر ، كقوله تعالى : (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ. يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا) الروم : ٦ ، ٧.

* * *

(٢٦) التشبيه :

وهو إلحاق شىء بذى وصف فى وصفه ، أو أن تثبت للمشبه حكما من أحكام المشبه به ، وقيل : هو الدلالة على اشتراك شيئين فى وصف هو من أوصاف الشيء الواحد.

وهو حكم إضافى لا يرد إلا بين الشيئين ، بخلاف الاستعارة.

وأدواته :

١ ـ أسماء ، ومنه قوله تعالى : (مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ) آل عمران : ١١٧.

٢ ـ أفعال ، ومنه قوله تعالى : (يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً) النور : ٢٥.

٣ ـ حروف ، وهى إما :

(أ) بسيطة ، كالكاف ، نحو قوله تعالى : (كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ) إبراهيم : ١٨.

(ب) مركبة ، كقوله تعالى : (كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ) الصافات : ٦٥.

وينقسم باعتبار طرقه إلى ثلاثة أقسام :

٤٢

١ ـ أن يكونا حسيين ، كقوله تعالى : (كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ) القمر : ٢٠.

٢ ـ أن يكونا عقليين ، كقوله تعالى : (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً) البقرة : ٧٤.

٣ ـ أن يكون المشبه معقولا والمشبه به محسوسا ، كقوله تعالى : (كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً) الجمعة : ٥ لأن حملهم التوراة ليس كالحمل على العاتق ، إنما هو القيام بما فيها.

* * *

(٢٧) التضمين :

وهو إعطاء الشيء معنى الشيء ، ويكون :

١ ـ فى الأسماء ، وهو أن يضمن اسما معنى اسم لإفادة معنى الاسمين جميعا ، كقوله تعالى : (حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَ) الأعراف : ١٠٥ ، ضمن «حقيق» معنى : حريص ، ليفيد أنه محقوق بقول الحق وحريص عليه.

٢ ـ فى الأفعال ، وهو أن تضمن فعلا معنى فعل آخر ، ويكون فيه معنى التعليق جميعا ، وذلك بأن يكون الفعل يتعدى مجرف فيأتى متعديا بحرف آخر ، ليس من عادته التعدى به ، فيحتاج إما إلى تأويله أو تأويل الفعل ليصح تعديه به ، كقوله تعالى : (عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللهِ) الدهر : ٦ ، فضمن «يشرب» معنى : يروى ، لأنه لا يتعدى بالباء ، فلذلك دخلت الباء ، وإلا فيشرب يتعدى بنفسه ، فأريد باللفظ الشرب والرى معا.

* * *

(٢٨) التعديد :

وهو إيقاع الألفاظ المبددة على سياق واحد ، وأكثر ما يؤخذ فى الصفات ومقتضاه ألا يعطف بعضها على بعض لاتحاد محلها وتجرى مجرى الوصف فى الصدق

٤٣

على ما صدق ، ولذلك يقل عطف بعض صفات الله على بعض فى التنزيل ، وذلك كقوله تعالى : (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) البقرة : ٢٥٥.

* * *

(٢٩) التعريض والتلويح :

وهو الدلالة على المعنى من طريق المفهوم ، وسمى تعريضا لأن المعنى باعتباره يفهم من عرض اللفظ ، أى من جانبه ، ويسمى التلويح ، لأن المتكلم يلوح منه السامع ما يريده ، كقوله تعالى : (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ) الأنبياء : ٦٣ ، لأن غرضه بقوله (فَسْئَلُوهُمْ) على سبيل الاستهزاء ، وإقامة الحجة عليهم بما عرض لهم به من عجز كبير الأصنام عن الفعل ، مستدلا على ذلك بعدم إجابتهم إذا سئلوا ، ولم يرد بقوله : (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا) نسبة الفعل الصادر عنه إلى الصنم ، فدلالة هذا الكلام عجز كبير الأصنام عن الفعل بطريق الحقيقة.

ومنه أن يخاطب الشخص ، والمراد غيره سواء كان الخطاب مع نفسه ، أو مع غيره ، كقوله تعالى : (فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ) البقرة : ٢٠٩. فالخطاب للمؤمنين والتعريض لأهل الكتاب ، لأن الزلل لهم لا للمؤمنين.

* * *

(٣٠) التعريف بالألف واللام ـ أسبابه :

١ ـ الإشارة إلى معهود خارجى ، كقوله تعالى : (بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ. فَجُمِعَ السَّحَرَةُ) الشعراء : ٣٧ ، ٣٨ ، على قراءة الأعمش ، والجمهور (بكل سحار) فإنه أشير بالسحرة إلى ساحر مذكور.

٢ ـ الإشارة إلى معهود ذهنى ، أى فى ذهن مخاطبك ، كقوله تعالى : (إِذْ هُما فِي الْغارِ) آل عمران : ٣٥.

٤٤

٣ ـ الإشارة إلى معهود حضورى ، كقوله تعالى : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) المائدة : ٣ ، فإنها نزلت يوم عرفة.

٤ ـ الجنس ، وهو أن يقصد جنس المعنى ، على وجه الحقيقة لا المبالغة ، كقوله تعالى : (وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍ) الأنبياء : ٣٠ ، أى جعلنا مبتدأ كل حى هذا الجنس ، الذى هو الماء.

* * *

(٣١) التعليل :

وهو ذكر الشيء معللا ، وهو أبلغ من ذكره بلا علة ، وهذا لوجهين :

١ ـ أن العلة المنصوصة قاضية بعموم المعلول.

٢ ـ أن النفوس تنبعث إلى نقل الأحكام المعللة بخلاف غيرها.

وللدلالة على العلة طرق :

١ ـ التصريح بلفظ الحكم ، كقوله تعالى : (وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ) النساء : ١١٣ ، والحكمة هى العلم النافع ، أو العمل الصالح.

٢ ـ أنه فعل كذا لكذا ، أو امر بكذا لكذا ، كقوله تعالى : (ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) المائدة : ٩٧.

٣ ـ الإتيان بكى ، كقوله تعالى : (ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ) الحشر : ٧ ، فعلل سبحانه قسمة الفيء بين هذه الأصناف كيلا يتداوله الأغنياء ، دون الفقراء.

٤ ـ ذكر المفعول له وهو علة للفعل المعلل به ، كقوله تعالى : (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً) النحل : ٨٩ ، وقد يكون معلولا بعلة

٤٥

أخرى ، كقوله تعالى : (يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ) البقرة : ١٩.

٥ ـ اللام فى المفعول له : وتقوم مقام الباء ، نحو : (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا) النساء : ١٦٠ ، و «من» نحو : (مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا) المائدة : ٣٢ ، والكاف ، نحو : (كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ) البقرة : ١٥١.

٦ ـ الإتيان بإن ، كقوله تعالى : (وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) المزمل : ٢٠.

٧ ـ أن والفعل المستقبل بعدها ، تعليلا لما قبله : كقوله تعالى : (أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا) الأنعام : ١٥٦.

٨ ـ من أجل ، كقوله تعالى : (مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ) المائدة : ٣١ ، فإنه لتعليل الكتب ، وعلى هذا فيجب الوقف على (من النّادمين).

٩ ـ التعليل بلعل ، كقوله تعالى : (اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) البقرة : ٢١.

١٠ ـ ذكر الحكم الكونى والشرعى عقب الوصف المناسب له ، فتارة يذكر :

(أ) بإن ، كقوله تعالى : (وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ. فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ) الأنبياء ٨٩ ، ٩٠.

(ب) بالفاء ، كقوله تعالى : (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما) المائدة : ٣٨.

(ج) وتارة يجرد ، كقوله تعالى : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ. ادْخُلُوها بِسَلامٍ) الحجر : ٤٥ ، ٤٦.

١١ ـ تعليله سبحانه عدم الحكم بوجود المانع منه ، كقوله تعالى : (وَلَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ ...) الزخرف : ٣٣.

٤٦

١٢ ـ إخباره تعالى عن الحكم والغايات التى جعلها فى خلفه وأمره ، كقوله تعالى : (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً ...) البقرة : ٢٢.

* * *

(٣٢) التعوذ والبسملة :

لا خلاف بين العلماء أن القارئ للقرآن مطلوب منه عند البدء فى القراءة أن يتعوذ ، والصيغة المختارة للتعوذ هى : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.

وعند الجمهور أن التعوذ على الندب لا على الوجوب.

ثم لا خلاف بين العلماء فى الجهر بها عند البدء فى القراءة لأنها شعارها.

ولا بد من قراءة البسملة أول كل سورة تحرزا ، على مذهب الشافعى.

وقد اختلف العلماء فى البسملة على ثلاثة أقوال :

١ ـ ليست بآية ، لا من الفاتحة ولا من غيرها ، وهو قول مالك.

٢ ـ أنها آية من كل سورة ، وهو قول عبد الله بن المبارك.

٣ ـ أنها آية من الفاتحة ، وهو قول الشافعى.

* * *

(٣٣) التغليب :

وهو إعطاء الشيء حكم غيره ، وقيل : ترجيح أحد المغلوبين على الآخر ، أو إطلاق لفظه عليهما ، إجراء للمختلفين مجرى المتفقين ، وهو أنواع :

١ ـ تغليب المذكر ، كقوله تعالى : (وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ) القيامة : ٩ ، غلب المذكر ، لأن الواو جامعة ، لأن لفظ الفعل مقتض ، ولو أردت العطف امتنع.

٢ ـ تغليب المتكلم على المخاطب والمخاطب على الغائب ، ومنه قوله تعالى : (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) النمل : ٥٥ ، غلب جانب (أنتم) على جانب «قوم» ، والقياس

٤٧

أن يجيء بالياء ، لأنه وصف القوم وقوم اسم غيبة ، ولكن حسن آخر الخطاب ، وصفا لقوم لوقوعه خبرا عن ضمير المخاطبين.

٣ ـ تغليب العاقل على غيره ، كقوله تعالى : (قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ) فصلت : ١١ ، فجمعها جمع السلامة لأنه : أراد ائتيا بمن فيكما من الخلائق طائعين ، فخرجت الحال على لفظ الجمع ، وغلب من يعقل من الذكور.

٤ ـ تغليب المتصف بالشىء على ما لم يتصف به ، كقوله تعالى : (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا) البقرة : ٢٣ ، غلب غير المرتابين على المرتابين.

٥ ـ تغليب الأكثر على الأقل ، كقوله تعالى : (لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا) الأعراف : ٨٨ ، أدخل شعيب عليه‌السلام فى قوله : (لَتَعُودُنَ) بحكم التغليب ، إذ لم يكن فى قريتهم أصلا حتى يعود إليها.

٧ ـ تغليب الجنس الكثير الأفراد على فرد من غير هذا الجنس ، مغمور فيما بينهم ، بأن يطلق اسم الجنس على الجميع ، كقوله تعالى : (فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ) ص : ٧٣ ، ٧٤ ، فلقد عد إبليس منهم مع أنه كان من الجن ، تغليبا لكونه جنيا واحدا فيما بينهم ، ولأن جعل الاستثناء على الاتصال هو الأصل.

٧ ـ تغليب الموجود على ما لم يوجد ، كقوله تعالى : (بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) البقرة : ٤ ، فإن المراد المنزل كله ، وإنما عبر عنه بلفظ المضى ، وإن كان بعضه مترقبا ، تغليبا للموجود على ما لم يوجد.

٨ ـ تغليب الإسلام ، كقوله تعالى : (وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ) الأحقاف : ١٨ ، لأن الدرجات للعلو والدركات للسفل ، فاستعمل الدرجات فى القسمين تغليبا.

٩ ـ تغليب ما وقع بوجه مخصوص على ما وقع بغير هذا الوجه ، كقوله تعالى :

٤٨

(ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ) آل عمران : ١٨٢ ، ذكر الأيدى ، لأن أكثر الأعمال تزاول بها ، فحصل الجمع بالواقع بالأيدى.

١٠ ـ تغليب الأشهر ، كقوله تعالى : (يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ) الزخرف : ٢٨ ، أراد : المشرق والمغرب ، فغلب المشرق ، لأنه أشهر الجهتين.

* * *

(٣٤) التفسير والتأويل :

قال ابن فارس : معانى العبارات التى يعبر بها عن الأشياء ترجع إلى ثلاثة :

المعنى ، والتفسير ، والتأويل ، وهى وإن اختلفت فالمقاصد متقاربة.

فأما المعنى ، فهو القصد والمراد.

وأما التفسير لغة ، فهو : الإظهار والكشف ، وفى الاصطلاح : هو علم نزول الآية وسورتها ، والإشارات النازلة فيها ، ثم ترتيب مكيها ومدنيها ، ومحكمها ومتشابهها ، وناسخها ومنسوخها ، وخاصها وعامها ، ومطلقها ، ومقيدها ، ومجملها ومفسرها ، وعلم حلالها وحرامها ، ووعدها ووعيدها ، وأمرها ونهيها ، وعبرها وأمثالها.

وأما التأويل ، فهو صرف الآية إلى ما تحمله من المعانى.

والتفسير أعم من التأويل ، وأكثر استعماله فى الألفاظ ، وأكثر استعمال التأويل فى المعانى ، كتأويل الرؤيا ، وأكثره يستعمل فى الكتب الإلهية ، والتفسير يستعمل فى غيرها. والتفسير أكثر ما يستعمل فى معانى مفردات الألفاظ.

والتفسير فى عرف العلماء كشف معانى القرآن ، وبيان المراد أعم من أن يكون بحسب اللفظ المشكل وغيره ، وبحسب المعنى الظاهر وغيره.

والتفسير إما أن يستعمل فى غريب الألفاظ ، كالبحيرة والسائبة والوصيلة ، أو فى وجيز مبين بشرح ، كقوله تعالى : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) البقرة : ٤٣ ،

٤٩

وإما فى كلام مضمن لقصة لا يمكن تصويره إلا بمعرفتها ، كقوله تعالى : (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ) التوبة : ٣٧.

وأما التأويل فإنه يستعمل مرة عامّا ومرة خاصّا ، نحو الكفر ، فإنه يستعمل تارة فى الجحود المطلق ، وتارة فى جحود البارئ خاصة.

وقيل : التأويل ، كشف ما انغلق من المعنى ، ولهذا يقال : التفسير يتعلق بالرواية ، والتأويل يتعلق بالدراية.

ويعتبر فى التفسير الإتباع والسماع ، وإنما الاستنباط فيما يتعلق بالتأويل.

وقيل : التأويل ، صرف الآية إلى معنى موافق لما قبلها وما بعدها ، تحتمله الآية ، غير مخالف للكتاب والسنة من طريق الاستنباط ، فأما التأويل المخالف للآية والشرع فمحظور ، لأنه تأويل الجاهلين ، وهذا مثل تأويل الروافض لقوله تعالى : (مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ) الرحمن : ١٩ ، أنهما على وفاطمة ، (يخرج منهما اللّؤلؤ والمرجان) الرحمن : ٢٢ ، أنهما الحسن والحسين ، رضى الله عنهما.

وأمهات مآخذ التفسير أربعة :

١ ـ النقل عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٢ ـ الأخذ بقول الصحابى.

٣ ـ الأخذ بمطلق اللغة.

٤ ـ التفسير بالمقتضى من معنى الكلام والمقتضب من قوة الشرع.

ويقسمون التفسير أقساما أربعة ، وهى :

١ ـ قسم تعرفه العرب فى كلامها ، وهذا ما يرجع فيه إلى لسانهم ، شأن اللغة والإعراب.

٢ ـ ما لا يعذر واحد يجهله ، وهو ما تتبادر الأفهام إلى معرفة معناه من النصوص المتضمنة شرائع الأحكام ودلائل التوحيد ، وكل لفظ أفاد معنى واحدا جليّا لا سواه ، يعلم أنه مراد الله تعالى.

٥٠

وهذا القسم لا يختلف حكمه ولا يلتبس تأويله ، فكل أحد يدرك معنى التوحيد من قوله تعالى : (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) محمد : ١٩ ، وأنه لا شريك له فى الهيئة ، وإن لم يعلم أن «لا» موضوعة فى اللغة للنفى ، و «إلا» للإثبات ، وأن مقتضى هذه الكلمة الحصر.

٣ ـ ما لا يعلمه إلا الله تعالى ، وهو ما يجرى مجرى الغيوب ، نحو الآى المتضمنة قيام الساعة ونزول الغيث ، وما فى الأرحام ، وتفسير الروح.

وكل متشابه فى القرآن لا مساغ للاجتهاد فى تفسيره ، ولا طريق إلى ذلك إلا بالتوقيف من أحد ثلاثة أوجه :

(أ) نص من التنزيل.

(ب) بيان من النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(ج) إجماع الأمة على تأويله.

٤ ـ ما يرجع إلى اجتهاد العلماء ، وهو الذى يغلب عليه إطلاق التأويل ، وهو صرف اللفظ إلى ما يؤول إليه ، فالمفسر ناقل ، والمؤول مستنبط.

فكل لفظ احتمل معنيين فأكثر لم يجز لغير العلماء الاجتهاد فيه ، وعلى العلماء اعتماد الشواهد والدلائل ، وليس لهم أن يعتمدوا مجرد رأيهم فيه.

* * *

(٣٥) التقديم والتأخير :

وهو تقديم ما رتبته التأخير ، كالمفعول ، وتأخير ما رتبته التقديم كالفاعل ، نقل كل واحد منهما عن رتبته وحقه ، وله أسباب ، منها :

١ ـ أن يكون فى التأخير إخلال ببيان المعنى ، ومنه قوله تعالى : (وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ) غافر : ٢٨ ، فإنه لو أخر (مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ) فلا يفهم أنه منهم.

٢ ـ أن يكون فى التأخير إخلال بالتناسب ، فيقدم لمشاكلة الكلام ولرعاية الفاصلة ، كقوله تعالى : (وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) فصلت :

٥١

٢٧ ، بتقديم (إياه) على (تَعْبُدُونَ) لمشاكلة رءوس الآى.

٣ ـ لعظمه والاهتمام به ، كقوله تعالى : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) : البقرة : ٤٣ ، فبدأ بالصلاة لأنها أهم.

٥ ـ أن يكون الخاطر ملتفتا إليه والهمة معقودة به ، كقوله تعالى : (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ) الأنعام : ١٠٠ ، بتقديم المجرور على المفعول الأول ، لأن الإنكار متوجه إلى الجعل لله لا إلى مطلق الجعل.

٦ ـ أن يكون التقديم لإرادة التبكيت والتعجب من حال المذكور ، كتقديم المفعول الثانى على الأول فى قوله تعالى : (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَ) الأنعام : ١٠٠ ، والأصل «الجن شركاء» وقدم لأن المقصود التوبيخ ، وتقديم (الشركاء) أبلغ فى حصوله.

٧ ـ الاختصاص ، وذلك بتقديم المفعول والخبر والظرف والجار والمجرور ، كقوله تعالى : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) فاتحة الكتاب : ٥ ، أى نختصك بالعبادة ، فلا نعبد غيرك.

وهو إما :

(أ) أن يقدم والمعنى عليه.

(ب) أن يقدم وهو فى المعنى مؤخر.

(ج) ما قدم فى آية وأخرى فى أخرى.

(أ) ما قدم والمعنى عليه :

ومقتضياته كثيرة ، منها :

١ ـ السبق ، وهو أقسام :

(١) السبق بالزمان والإيجاد ، كقوله تعالى : (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُ) آل عمران : ٦٨ ، والمراد : الذين اتبعوه فى زمن.

(ب) سبق إنزال ، كقوله تعالى : (الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ) الأعراف : ١٥٧.

٥٢

(ج) سبق وجوب ، كقوله تعالى : (ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا) الحج : ٧٧.

(د) سبق تنزيه ، كقوله تعالى : (آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ) البقرة : ٢٨٠ ، فبدأ بالرسول قبل المؤمنين ، ثم بدأ بالإيمان بالله ، لأنه قد يحصل بدليل العقل ، والعقل سابق فى الوجود على الشرع.

٢ ـ بالذات ، كقوله تعالى : (سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ) الكهف : ٢٢ وكذلك جميع الأعداد ، كل مرتبة هى متقدمة على ما فوقها بالذات.

٣ ـ بالعلة والسببية ، كقوله تعالى : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) الفاتحة : ٥ ، قدمت العبادة لأنها سبب حصول الإعانة.

٤ ـ بالمرتبة ، كقوله تعالى : (غَفُورٌ رَحِيمٌ) البقرة : ١٧٣ ، فإن المغفرة سلامة والرحمة غنيمة ، والسلامة مطلوبة قبل الغنيمة.

٥ ـ بالداعية ، كتقدم الأمر بغض الأبصار على حفظ الفروج ، كقوله تعالى : (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ) النور : ٣٠ ، لأن البصر داعية إلى الفرج ، بقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «العينان تزنيان والفرج يصدق ذلك أو يكذبه».

٦ ـ التعظيم ، كقوله تعالى : (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ) النساء : ٦٩.

٧ ـ الشرف ، كقوله تعالى : (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ) الأحزاب : ٣٥ ، لشرف الذكورة. والشرف أنواع : شرف الحرية ، شرف الفعل ، شرف الإيمان ، شرف العلم ، شرف الحياة ، شرف المعلوم ، شرف الإدراك ، شرف المحازاة ، شرف العموم ، شرف الإباحة ، الشرف بالفضيلة ، وكل هذا له شواهده من القرآن الكريم.

٨ ـ الغلبة والكثرة ، كقوله تعالى : (فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللهِ) فاطر : ٣٢ ، قدم الظالم لكثرته ، ثم المقتصد ، ثم السابق.

٩ ـ سبق ما يقتضى تقديمه ، وهو دلالة السياق ، كقوله تعالى : (وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ) النحل : ٦ ، لما كان إسراحها وهى خماص ،

٥٣

وإراحتها وهى بطان ، قدم الإراحة ، لأن الجمال بها حينئذ أفخر.

١٠ ـ مراعاة اشتقاق اللفظ ، كقوله تعالى : (لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ) المدثر : ٣٧.

١١ ـ الحث عليه خيفة من التهاون به ، كتقديم تنفيذ الوصية على وفاء الدين ، كقوله تعالى : (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ) النساء : ١١ ، فإن وفاء الدين سابق على الوصية ، لكن قدم الوصية لأنهم كانوا يتساهلون بتأخيرها بخلاف الدين.

١٢ ـ لتحقق ما بعده واستغنائه هو عنه فى تصوره ، كقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) مريم : ٩٦.

١٣ ـ الاهتمام عند المخاطب ، كقوله تعالى : (فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها) النساء : ٨٦.

١٤ ـ للتنبيه على أنه مطلق لا مقيد ، كقوله تعالى : (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَ) الأنعام : ١٠٠ ، على القول بأن الله فى موضع المفعول الثانى ل «جعل» وشركاء ، مفعول أول. ويكون «الجن» فى كلام ثان مقدر ، كأنه قيل : فمن جعلوا شركاء؟ قيل : الجن. وهذا يقتضى وقوع الإنكار على جعلهم «لله شركاء» على الإطلاق ، فيدخل بشركة غير الجن ، ولو أخر فقيل : وجعلوا الجن شركاء لله ، وكان الجن مفعولا أولا وشركاء ثانيا ، فتكون الشركة مقيدة غير مطلقة ، لأنه جرى على الجن ، فيكون الإنكار توجه لجهل المشاركة للجن خاصة ، وليس كذلك.

١٥ ـ للتنبيه على أن السبب مرتب ، كقوله تعالى : (يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ) التوبة : ٣٥ ، قدم الجباه ثم الجنوب ، لأن مانع الصدقة كان يصرف وجهه أولا عن السائل. ثم ينوء بجانبه ، ثم يتولى بظهره.

٥٤

١٦ ـ التنقل ، وهو أنواع :

(أ) إما من الأقرب إلى الأبعد ، كقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ) آل عمران : ٥ ، لقصد الترقى.

(ب) وإما من الأبعد إلى الأقرب ، كقوله تعالى : (إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ) الجاثية : ٣.

(ح) وإما من الأعلى ، كقوله تعالى : (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ) آل عمران : ١٨.

(د) وإما من الأدنى ، كقوله تعالى : (وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً) الكهف : ٤٩.

١٧ ـ الترقى ، كقوله تعالى : (أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها) الأعراف : ١٩٥ ، فإنه سبحانه بدأ منها بالأدنى لغرض الترقى ، لأن منفعة الرابع أهم من منفعة الثالث ، فهو أشرف منه ، ومنفعة الثالث أعم من منفعة الثانى ، ومنفعة الثانى أعم من منفعة الأول ، فهو أشرف منه.

١٨ ـ مراعاة الإفراد ، فإن المفرد سابق على الجمع ، كقوله تعالى : (الْمالُ وَالْبَنُونَ) الكهف : ٤٦.

١٩ ـ التحذير منه والتنفير منه ، كقوله تعالى : (الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً) النور : ٣ ، قرن الزنى بالشرك وقدمه.

٢٠ ـ التخويف منه ، كقوله تعالى : (فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ) هود : ١٠٥.

٢١ ـ التعجب من شأنه ، كقوله تعالى : (وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ) : الأنبياء : ٧٩ ، قدم الجبال على الطير ، لأن تسخيرها له وتسبيحها أعجب وأدل على القدرة ، وأدخل فى الإعجاز ، لأنها جماد والطير حيوان ناطق.

٢٢ ـ كونه أدل على القدرة ، كقوله تعالى : (فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ) النور : ٤٥.

٢٣ ـ قصد الترتيب ، كما فى آية الوضوء ، فان إدخال المسح بين الغسلين ،

٥٥

وقطع النظير عن النظير ، مع مراعاة ذلك فى لسانهم ، دليل على قصد الترتيب.

٢٤ ـ خفة اللفظة ، كتقديم الإنس على الجن ، فالإنس أخف ، لمكان النون والسين المهموسة.

٢٥ ـ رعاية الفواصل ، كتأخير الغفور فى قوله تعالى : (لَعَفُوٌّ غَفُورٌ) الحج : ٦٠.

(ب) أن يقدم وهو فى المعنى مؤخر.

فمنه :

١ ـ ما يدل على ذلك الإعراب ، كتقديم المفعول على الفاعل في نحو قوله تعالى : (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) فاطر : ٢٨.

٢ ـ ما يدل على المعنى ، كقوله تعالى : (وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها) البقرة : ٧٢ ، فهذا أول القصة ، وإن كانت مؤخرة فى التلاوة.

(ج) ما قدم فى آية وأخر فى أخرى.

فمن ذلك : قوله تعالى فى فاتحة الفاتحة : (الْحَمْدُ لِلَّهِ) وفى خاتمة الجاثية (فَلِلَّهِ الْحَمْدُ) الجاثية : ٣٦.

ومن أنواعه :

١ ـ أن يقدم اللفظ فى الآية ويتأخر فيها ، لقصد أن يقع البداءة والختم به للاعتناء بشأنه ، كقوله تعالى : (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ) آل عمران : ١٠٦.

٢ ـ أن يقع التقديم فى موضع والتأخير فى آخر ، واللفظ واحد والقصة واحدة للتفنن فى الفصاحة وإخراج الكلام على عدة أسباب ، كما فى قوله تعالى : (وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ) البقرة : ٥٨ ، وقوله تعالى : (وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً) الأعراف : ١٦١.

* * *

٥٦

(٣٦) التقسيم :

وهو استيفاء المتكلم أقسام الشيء بحيث لا يغادر شيئا ، كقوله تعالى : (فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللهِ) فاطر : ٣٢ ، فإنه لا يخلو العالم جميعا من هذه الأقسام الثلاثة : إما ظالم نفسه ، وإما سابق مبادر إلى الخيرات ، وإما مقتصد فيها ، وهذا من أوضح التقسيمات وأكملها.

* * *

(٣٧) التكرار ـ وانظر : القصة :

وهو إعادة اللفظ أو مرادفه لتقرير معنى ، خشية تناسى الأول لطول العهد به ، فإن أعيد لا لتقرير المعنى السابق لم يكن منه ، وفوائده :

١ ـ زيادة التنبيه على ما ينفى التهمة ليكمل تلقى الكلام بالقبول ، ومنه قوله تعالى : (وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ. يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ) غافر : ٣٨ ، ٣٩ ، وتكرار النداء لهذا.

٢ ـ إذا طال الكلام وخشى تناسى الأول أعيد ثانيا ، تطرية له وتجديدا لعهده ، كقوله تعالى : (وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكافِرِينَ) البقرة : ٨٩ ، فهذا تكرار للأول ، لأن «لما» لا تجيء بالفاء.

٣ ـ فى مقام التهويل والتعظيم ، كقوله تعالى : (الْقارِعَةُ مَا الْقارِعَةُ) القارعة : ١

٤ ـ فى مقام الوعيد والتهديد ، كقوله تعالى : (كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ. ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ) التكاثر : ٦ ، ٧ ، ذكر «ثم» فى المكرر دلالة على أن الإنذار الثانى أبلغ من الأول ، وفيه تنبيهه على تكرر ذلك مرة بعد أخرى ، وإن تعاقبت عليه الأزمنة لا يتطرق إليه تغيير بل هو مستمر أبدا.

٥ ـ التعجب ، كقوله تعالى : (فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ. ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ) المدثر : ١٩ ، ٢٠ ، فأعيد تعجبا من تقديره ، وإصابته الغرض.

٥٧

٦ ـ لتعدد المتعلق ، كما فى قوله تعالى : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) الرحمن : ١٣. وما بعدها ، فإنها وإن تعددت فكل واحد منها متعلق بما قبله.

* * *

(٣٨) تنجيم القرآن ، أى نزوله منجما :

فيما بين السابع عشر من رمضان ـ من السنة الحادية والأربعين من ميلاد الرسول ، وكان بدء نزول الوحى ، وإلى ما قبل موته صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بأيام لا تجاوز الواحد والثمانين ولا تنقص عن العشرة ، وكان آخر ما نزل من الوحى ، أى فى نحو من إحدى وعشرين سنة ، أو على الأصح فى نحو من ثمانى عشرة سنة ، بإسقاط المدة التى فتر فيها الوحى والتى بلغت ثلاث سنين ـ نزل هذا القرآن منجما يشرع للناس. ويتابع الأحداث ، ويجيب وببين (وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِ) الفرقان : ٣٣ (وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً) الإسراء : ١٠٦.

وما كانت حكمة السماء تقضى إلا بهذا مع أمة يراد لها أولا التحول من عقائد إلى عقيدة ، والخروج من وثنية إلى دين ، ومن أوهام وظنون إلى منطق وحق ، ومن لا إيمان إلى إيمان.

تلك خطوة أولى كان من الحكمة أن تبدأ بها الدعوة وتفرغ لها ، حتى إذا ما ضمت الناس على الطريق أخذتهم بما تحمى إيمانهم به ، فحاطتهم بعبادات وألزمتهم بواجبات ، والناس لا يمضون فيما جد عليهم خرسا لا ينطقون ، وعميا لا ينظرون. وغفلا لا يتدبرون ، فهم مع هذا كله سائلون يتبينون ، والوحى يتابعهم فى كل ما فيه يستفسرون. إذ به تمام الرسالة.

ثم إن هذه الدعوة السماوية بدأت جهادا وعاشت جهادا ، أملته الأيام وتمخضت عنه الأعوام ، وهو وإن كان فى علم السماء قبل أن يقع لكنه كان على علم الناس جديدا لم يقع ، وكان لا بد أن يلقنوه مع زمانه وأوانه.

٥٨

ثم ما أكثر ما أخذ الناس وأعطوا فى ظل الدعوة لتثبت أركانها فى نفوسهم ، وهذا ـ وإن كان فى علم السماء قبل أن يقع ـ لكنه كان على حياة الناس جديدا لم يقع ، وكان لا بد أن يلقنوا بيانه مع زمانه وأوانه.

وهكذا لم تكن الرسالة كلمة ساعتها ، وإنما كانت كلمات أعوام ثمانية عشر ، وكانت هذه الكلمات كلها فى علم السماء وفى اللوح المحفوظ ، ولكنها نزلت إلى علم الناس مع زمانها وأوانها.

لهذا نزل القرآن منجما ، ولقد خال المشركون أن دعوة الرسول إليهم كلمة ، وأن صفحته معهم صفحة ، وفاتهم أن الدعوة معها خطوات ، وأن هذه الخطوات معها جديد على علمهم لا على علم السماء ، وما أحوجهم مع كل جديد إلى مزيد ، ومن أجل هذا الذى فاتهم استنكروا أن ينزل القرآن منجما وقالوا : (لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً) الفرقان : ٣٢ ، وكان جواب السماء عليهم (كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً) الفرقان : ٣٢ ، أى : جعلناه بعضه فى إثر بعض ، منه ما نزل ابتداء ومنه ما نزل فى عقب واقعة أو سؤال ، ليكون فى تتابعه مع الأحداث ، وما تثيره من شكوك ، ما يرد النفوس إلى طمأنينة ، والأفئدة إلى ثبات.

وإنك لو تتبعت أسباب النزول فى القرآن ومواقع الآيات لتبينت أن رسالة الرسول لم تكن جملة واحدة ليكون القرآن جملة واحدة ، بل كانت أحداثا متلاحقة تقتضى كلمات متلاحقة.

فلقد نزلت آية الظهار فى سلة بن صخر ، ونزلت آية اللعان فى شأن هلال بن أمية ، ونزلت آية حد القذف فى رماة عائشة ، ونزلت آية القبلة بعد الهجرة وبعد أن استقبل المسلمون بيت المقدس بضعة عشر شهرا ، ونزلت آية اتخاذ مقام إبراهيم مصلى حين سأل عمر الرسول فى ذلك ، كذلك كانت الحال فى الحجاب ، وأسرى بدر ، وغير ذلك كثير ، فكان القرآن ينزل بحسب الحاجة خمس آيات ، وعشر آيات ، وأكثر وأقل ، وقد صح نزول عشر آيات فى قصة الإفك جملة ،

٥٩

كما صح نزول عشر آيات من أول «المؤمنين» جملة ، وصح نزول (غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ) النساء : ٩٤ وحدها ، وهى بعض آية ، وكذا (وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً) التوبة : ٢٩ ، إلى آخر الآية ، وهى بعض آية ، نزلت بعد نزول أول الآية.

* * *

(٣٩) التنكير : أسبابه :

١ ـ إرادة الوحدة ، كقوله تعالى : (وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى) القصص : ٢٠.

٢ ـ إرادة النوع ، كقوله تعالى : (هذا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ) ص : ٤٩ ، أى نوع من الذكر.

٣ ـ التعظيم ، كقوله تعالى : (فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ) البقرة : ٢٧٩ ، أى بحرب ، وأى حرب.

٤ ـ التكثر ، كقوله تعالى : (إِنَّ لَنا لَأَجْراً) الأعراف : ١١٣ ، أى أجرا وافرا جزيلا ، ليقابل المأجور عنه من الغلبة على مثل ، موسى عليه‌السلام ، فإنه لا يقابل الغلبة عليه بالأجر إلا وهو عديم النظير فى الكثرة.

٥ ـ التحقير ، كقوله تعالى : (مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) عبس : ١٨ ، أى من شىء حقير مهين ، ثم بين تعالى بقوله : (مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ) عبس : ١٩.

٦ ـ التعليل : كقوله تعالى : (وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ) التوبة : ٧٢ ، أى رضوان قليل من بحار رضوان الله الذى لا يتناهى ، أكبر من الجنات ، لأن رضى المولى رأس كل سعادة.

* * *

(٤٠) التوجيه :

وهو ما احتمل معنيين. ويؤتى به عند فطنة المخاطب ، كقوله تعالى حكاية عن أخت موسى عليه‌السلام : (هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ

٦٠